إن الذي يؤسف له حقا أننا لا نعرف إلا النزر اليسير عن الزراعة والنبات بل وعلوم الحياة عامة في العراق القديم, فقد ضاعت آثار ومؤلفات نادرة مما تركه هؤلاء الأقوام من تراث عظيم في شتى مجالات لعلوم والمعرفة والزراعة التي كانت بطبيعة الحال تحظى لدى العراقيين من السومريين والبابليين والآشوريين وغيرهم بعناية فائقة, لذلك فإن كتب التاريخ والمؤرخين الذين عاصرو قيام دول وادي الرافدين شهدوا بما وصلت إليه الزراعة وأصولها الأساسية من تقدم وازدهار عظيمين, وهناك دلائل كثيرة على ذلك فمثلا إيعاز الملك (نبوخذ نصر) بتشييد جنائن بابل الملعة التي تعتبر من عجائب الدنيا السبع القديمة, كما يعتبر من أهم معالم نهضة شعب العراق القديم ونضوجهم الفكري والحضاري. ويدل دلالة قاطعة لا مجال للمناقشة أن سكان العراق القدماء تفننوا بأساليب الزراعة ومقوماتها الأساسية تفننا عظيما وخبروا شؤون النبات وعرفوا الشيء الكثير عنه, وهم بذلك مع غيرهم من شعوب الأرض الأخرى وضعوا حجر الأساس للتقدم العلمي في هذا المجال فيما بعد. ومن أهم العلماء العراقيين الذين برزوا وكانوا روادا في مجال علوم الزراعة والنبات العالم النبطي الكلداني (أبو بكر أحمد بن علي بن قيس بن المختار بن عبد الكريم بن جرثيا بن بدنيا بن برطانيا بن عالاطيا الكلسداني الصوفي الملقب بابن وحشية. وكان من أهل قسين وهي قريبة من الكوفة آنذاك,و وهو أحد فصحاء النبط بلغة الكسدانيين الكلدانيين ,, وكان له كتب عديدة سماها بأسمائها وهي تبحث في السحر والأساطير والعزائم والكيمياء والزراعة. وقد أحصى ابن النديم في فهرسه ما يقارب من 24 كتابا لابن وحشية ضاع اكثرها, ولم يعرف منها إلا كتابان (الفلاحة النبطية ) و(شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام) وللأسف أدخل ابن خلدون الشك في نسب كتاب الفلاحة إلى الأنباط واعتبره من مؤلفات اليونان مما جعل بعض المستشرقين يتمسكون بهذه الفكرة ويشككون بأصالة الكتاب وجذوره العميقة الأولى في وادي الرافدين.

وهناك سؤال يتبادر للأذهان : من هم الأنباط؟ والحقيقة أن كتب التاريخ القديمة أخبرتنا أن الأنباط بالأصل قبائل عربية نزحت إلى سوريا والعراق والأردن, ومنهم من سكن البتراء وحران, وقد وردت أخبارهم في بعض المصادر  التاريخية.

كتاب الفلاحة لابن وحشية:

أول من درس مخطوطات هذا الكتاب من العلماء العرب المتوفرة في خزائن كتب الشرق والغرب التي بلغت ما يربو على عشرين نسخة خطية  وأكثرها متوفرة في دور كتب استانبول والقاهرة والجزائر وبرلين  واكسفورد وباريس ويقرها الأستاذ : كوركيس عواد المؤرخ العراقي المعروف الذي نشر بحثا قيما عنه في مجلة الزراعة العراقية سنة 1952م, في 21 صفحة ثم جاء بعده الأستاذ المؤرخ الزراعي اللبناني : عاد أبو النصر فنشر بحثا في كتاب أسماه (الفلاحة النبطية لابن وحشية , دراسة جديدة لأثر زراعي قديم) سنة 1958م, في 59 صفحة, ثم جاء الأستاذ توفيق فهد, فنشر بحثا عن دور الفلاحة النبطية في تطوير علم الفلاحة عند العرب ضمن الندوة العالمية الثالثة لتاريخ العلوم  عند العرب في الكويت سنة 1983م, بل وقام بتحقيق الكتاب نفسه بعد جهد كبير بذله وبعد اطلاعه على سائر ما كتب عنها وضمنها المخطوطات التي تركت عن الفلاحة وظهر في ثلاثة مجلدات ضخمة في سلسلة منشورات االمعهد الفني للدراسات العربية في دمشق. وكتاب الفلاحة يرجع عهده إلى سنة 291هـ وقد احتوى على بعض النظريات القديمة خصوصا وأن النبطيين هم من سكان العراق وأصلهم من البابليين القدماء ولغتهم النبطية وهي اللغة الآرامية التي كانت سائدة في العراق, يقول أبو النصر: ( ولا شك في أن الكتاب يتخلله خرافات وأكاذيب عديدة وأسماء ونوادر وأخبار ملفقة وقد هام صاحبه في كل واد, إلا أن فيه نظريات زراعية قيمة كانت متبعة في البلاد العربية الممتدة من أرض الحجاز الشمالية وحتى حدود فلسطين ونواحي دمشق إلى الفرات, وقد أراد ابن وحشية أن يثبت في كتابه أن قدماء أهل بابل قد توصلوا في مدارج الحضارة والتمدن والتقدم العلمي إلى غاية لم يصل إليها العرب في الجاهلية وبعد الجاهلية) وفي أوروربا عرف كتاب الفلاحة النبطية بوجهات نظر شتى وحسب الدارسين والباحثين الغربيين فأول الامر تاهت عليهم فكرة الكتاب الأساسية حيث اعتبروه كتاب دين أو ثقافة يمت للأنباط, وبعضهم اعتقد أن كلمة نبط هي (قبط) فأعطوه اسم الفلاحة المصرية أو القبطية ثم إن البعض الآخر قالوا هذا الكتاب ماهو إلا ترجمة من كتب الفلاحة اليونانية ولكن في سنة 1802م, تبلورت معلومات موضوعية عند علماء الغرب فوضع العالم: (جوزف بانكيري) ترجمة بالإسبانية لكتاب الفلاحة الأندلسية لابن العوام ماهو إلا خلاصة لكتاب ابن وحشية , كما يعتقد بعض علماء الزراعة وتاريخ العلوم , حيث جاء خاليا من السحر والشعوذة والطلسمات مما أضاع أهمية كتاب الفلاحة النبطية التاريخية تقريبا, وفي سنة 1835م, قام العالم (كويتور ميور) بنشر موضوع في المجلة الأسيوية تكلم فيه عن مخطوط موجود في المكتبة الوطنية بباريس بضم ما يقرب من ثلث كتاب الفلاحة النبطية وعقب الدراسة أعلن أن هذا الكتاب يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد في عهد الملك الكلداني نبوخذ نصر, بينما عالم النبات (ماير) من جامعة كونيغسبرغغ قرر أن كتاب الفلاحة النبطية يعود إلى القرن الأول للميلاد استناد إلى بعض الاسماء اليونانية التي جاءت في هذا الكتاب, والعالم الذي عرف أوروبا خاصة والغرب عامة على كتاب ابن وحشية كان الباحث المستشرق الروسي (شولسون) من جامعة سان بطرسبرغ  سنة 1856م, الذي ظن أن تلك الفلاحة كانت من بقايا الفلاحة الكلدانية والبابلية القديمة التي بقيت محفوظة عبر العصور فازدهرت في ذلك الكتاب, ونشر الفرنسي (أرنست رينان) سنة 1861م, بعد دارسة طويلة وذات نظر قصير موضوعا عن كتاب الفلاحة النبطية مهاجما ومتحاملا على حضارة العراق القديم واعتبر كل ماجاء في كتاب ابن وحشية مستمدا من الكتب الفلاحية اليونانية, وأن جميع الأساطير والخرافات والسحر التي وردت فيه هي من رواسب الحضارات السامية المنقرضة والتي توارثها الصابئة الحرانيون عن أنباط بلاد ما بين النهرين, ونحن لا نرد على أرنست من عندنا بل سنثبت ما أكده أشهر علماء تاريخ العلوم الأمريكيين (جورج سارتون) في مقدمة كتابه القيم (تاريخ العلم) وهو من علماء الغرب المعترفين بأثر الحضارة الإسلامية في أوروربا والغرب, قال: ومما أفسد العلم القديم في كثير من الأحيان ظاهرتان من الإهمال الذي لا يمكن التسامح فيه, الظاهرة الاولى: تتعلق بفهم العلم الشرقي, فمن السذاجة أن نفترض أن علما بدأ في بلاد الإغريق فإن المعجزة اليونانية سبقتها آلاف الجهود العلمية في مصر وبلاد ما بين النهرين وغيرهما من الأقاليم, العلم اليوناني كان إحياء اكثر منه اختراعا, والظاهرة الثانية: أهما الإطار الخرافي الذي نشأ فيه العلم,  لالشرقي فحسب بل اليوناني ذاته.

آراء العلماء العرب في الفلاحة لابن وحشية:

إن السخة التي قام بوضعها قطاعي تعود بتاريخ إلى الفترة الواقعة ما بين القرنين الثاني والخامس للميلاد, في حين أن الفلاحة اليونانية تعود إلى القرن السادس للميلاد, وقد نقل الكتاب للعربية في أوائل القرن التاسع الميلادي, ووقع كتاب الفلاحة اليونانية في 150صفحة من القطع المتوسط بينما كان كتاب الفلاحة النبطية عبارة عن موسوعة كبيرة في 650 صفحة.

إن وجدت بعض المشابهة بين الكتابين إلا أن الفلاحة النبطية هو مؤلف يضم معلومات في غاية الواقعية ولم يستفد من مؤلفات اليونان أو الرومان وإنما العكس هو الصحيح فإن العديد من الكتب الزراعية اليونانية استفادت من كتاب الفلاحة النبطية بل وحتى كتب الزراعة في عصر النهضة.

يمثل كتاب  الفلاحة النبطية القمة التي وصل إليها علم النبات العام وعلوم الزراعة بشكل خاص لدى الشعب الآرامي والنبطي في بلاد الهلال الخصيب قبل طهور الإسلام كما تتوضح من خلاله صورة تبين أن قسما كبيرا من نباتات العراق وسوريا قد درست من علماء هذين القطرين, وعرفت فوائدها الغذائية والدوائية ولا زالت أسماء النباتات التي ذكرت في الكتاب باقية إلى اليوم معروفة بأسمائها السابقة , ويقع الكتاب في ثلاثة عشر بابا, وإذا نحينا جانبا القسم المتعلق بالدارسات الدينية والفلسفية وما يتعلق بالكواكب والسحر فنستطيع تقسيم الكتاب إلى قسمين:

القسم الأول: يتناول هذا القسم كل نبات ورد ذكره مع بيان أوصافه والأرض التي تلائم انباته وزمن الزرع وجنيه والفصل والهواء المناسبان ونوع السماد بالإضافة إلى الفوائد الطبية والغذائية لكل نبات مذكور في الكتاب وطريقة حفظ الأقسام المستعملة ومكافحة الآفات التي تعترضها.

القسم الثاني: يتطرق فيه المؤلف إلى معلومات زراعية عامة تفيد إصلاح الأرض وتعينه على زراعتها بصورة جيدة ومن هذه المعلومات وصف أشكال التربة وإصلاحها وأنواع المياه وكيفية الحصول عليها وتحضير السماد المستعمل والتقويم الزراعي والشروط المناخية الواجب اتباعها عند الزراعة.

بعض ما جاء في كتاب الفلاحة النبطية:

استند ابن وحشية في تصنيفه النباتات المختلفة على تواجدها وأبعادها وطبائعها وقوامها وألوانها وطعومها, فيقول: ( وقد تنقسم المنابت كلها صغارها وكبارها وبقولها وشجرها , أقساما من وجوه كثيرة أحدها من جهة الأماكن بمعىى البر والبساتين وتختلف النباتات في المقادير من جهة الصغر والكبر وتختلف في الطباع والفعل من جهة غلبة الحر أو البرد والرطوبة أو اليبس فتختلف أفعالها لذلك إذا كانت الافعال في الأكثر تباعة لهذه الكيفيات الأربع وتختلف في القوام لأن فيها الخشن واللين كما تختلف في الثقل والخفة والألوان والطعوم والروائح) وتحدث ابن وحشية عن شيء يعرف بالنباتات المتحابة والمتنافرة, فقال: (قال ينبوشاد : أن السلجم والفجل والكرنب والجرجير , يضر نباتها بقرب الكرم, وأن السلق والحمص والكزبرة إذا زرعت فيما بين الكروم نفعتها منفعة بينة) وحول هذا الموضوع يعقب ابن وحشية بقوله: (والتي كشفت لنا التجربة وصححه لنا القياس أن أي نبات جاور الكروم مما طبيعته باردة رطبة, ولا يحتذب رطوبة كثيرة في اغتذائه ولا يجفف ويبس يبسا البته, فهو صالح للكروم) وحول تأثير الرياح في نشر الأمراض جاء في كتاب الفلاحة النبطية: (قال كاماش النهري ومن بعده ماشي السوراني أن كثرة حدوث الجذام بأرض الشام إنما هو كثرة هبوب الريح الردية الغربية على مياههم وزورعهم وشجرهم, وإن هذه الريح متى أحل هبوبها عليهم أفسدت عقولهم وعرض لهم مع ذلك حميات تكثر منها خيالاتهم الردية فيكون كثرة تلك الخيالات سببا لذهاب عقولهم وفساد تمييزهم)

وقال: ( وتؤثر الريح في النباتات فتهلك صغارها وكبارها, إلا أنها أهلك وأقتل لما كانا مزاجه أشد حرارة , وكذلك تفعل بالناس خاصة والحيوانات عامة, ولما كان النخل بصفاته يأتي في ذروة النباتات, وهو أقربها إلى عالم الحيوان, لذلك فإن قتل الريح للنخل أسرع من قتلها للأشجار المثمرة  وقتلها النعناع من البقول اسرع من قتلها الهندباء, وهذا يعني أن تأثير الريح يشتد كلما ازداد ارتفاع النبات عن سطح الأرض, إلا أن هناك بعض الأشجار التي لا تتأثر بها كالجوز والشاهبلوط, والخرنوب الشامي)

تحدث ابن وحشية عن نباتات كثيرة, مثل الإجاص الجبلي, والشفاناخ (السبانخ) , وأمير باريس والبطم, والسلق والطرفاء , والمحلب والنارنج, وقال عن النخل:

(أنواع عديدة تكاد لا تحصى لكثرتها واختلاف ضروبها باختلاف البلاد وأهويتها, وأسماؤها تختلف باختلاف ألوانها وأشكالها, ومن النخل ما ينبت من نفسه وهو البري ومنه ما يجاور الماء فهو العبري , ومن أنواع التمر: العجوز والشهريز والشيصاء وهذه أدنى التمور كلها.