أنجبت مدينة البصرة الأصيلة عباقرة ونوابغ في مختلف العلوم والآداب وبرز فيها علماء عمالقة في ميدان العلم والفكر والثقافة وكانوا موسوعيين فيما بحثوا عنه وما درسوا فيه وما تركوه من آثار ومصنفات, ومن بين هذه النجوم الزاهرة : أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد السجستاني الجشمي ينسب إلى سجستانة, إحدى قرى البصرة كما يؤكد أكثر من درس حياة وسيرة هذا الرجل العالم, ولا زالت سنة ولادته لحد الآن غير معروفة وغامضة, وحتى سنة وفاته اختلف فيها أيضا فقيل 255هـ والذي عرف عنه أنه كان فتى يطلب العلم في البصرة وأخذ من علماء ذلك الزمان وشيوخه علوم اللغة والتشريع والشعر والأدب وبعض العلوم النقلية, ولقد أخذ السجستاني  عن: العقدي (أبو عامر) وعن ابن كركرة, وعن الدوري, والجمحي, والأخفش.

ولقد اشتهر السجستاني كونه أحد علماء اللغة والنحو  والرواة ومفسرا بارعا ومحدثا بليغا وشاعرا مجددا, وقد ترك مؤلفات ومصنفات كثيرة في مجالات تخصصاته التي ذكرناها, ومن بين هذه المؤلفات القيمة توجد كتب تعتبر ذات قيمة في بلورة المصطلحات اللغوية العلمية في علوم النبات والحيوان ولها أهمية كبيرة اليوم لصياغة هذه المصطلحات لتدريس هذه العلوم في الجامعات العربية وإن اعتبرها البعض لغوية محضة , وتعتبر مؤلفات السجستاني وغيره من علماء اللغة العربية التي وضعها في علوم الحياة البذرة الأولى والأساس لبناء مرتكزات هذه العلوم في الحضارة العربية وبالتالي تأثيرها بأي شكل من الأشكال في الحضارة الأوروبية, وأهم ما وصلنا من أسماء كتب السجستاني: الكرم, والنخلة أو النخل, الإبل, الجراد و الحشرات, والخصب والقحط, وخلق الإنسان, وغيرها الكثير. وهذه المؤلفات لم تعد موجودة الآن عدا كتاب: الكرم , وكتاب النخل.

الفلاحة والنبات من خلال كتاب النخل للسجستاني:

 مع أن كتبا النخل الذي وضعه أبو حاتم ضم طائفة من الأشعار والآدب الشعبي والفكر الأسطوري وما يتعلق بالنخل من الوجهة اللغوية فقد جاء فيه فوائد قيمة عن مادة الفلاحة من تهيئة الأرض وأهم صفاتها ومتى تزرع النخلة بواسطة النواة أو الفسيلة وأساليب السقي وكيفية سماد الأرض حتى تصبح عامرة, ويتخلل ذلك ألفاظا كثيرة تتصل بالنخل , وذكر الآفات التي تصيب النخل ووضح أهمية النخلة في اقتصاديات العرب القدماء من غذاء (الرطب والتمر) وصناعة (من خوصها وسعفها وليفها وجذعها وجمارها) ولقد تحدث السجستاني عن انتشار النخل في العالم العربي وفي الجزيرة العربية, وعند الرجوع إلى المعلومات الحديثة حول انتشار النخيل في الجزيرة العربية ومصر والعراق وبالأخص في البصرة نجد أن التوزيع الجغرافي الذي ذكره السجستاني صحيح وقيم, فالنخيل كما هو معروف علميا لا ينبت ولا تزدهر زراعته ولا تنضج ثمارها بشكل ممتاز إلا في المناطق ذات الجو المرتفع الحرارة, القليل الرطوبة الخالي من الأمطار, وحتى إن وجدت مزروعة في بعض بقاع العالم الأخرى ذات المناخ والطبيعة غير الملائمة لهذه الشجرة, فإنها لا تنتج ثمرا جيدا صالحا للأكل, ولهذه الأسباب وتلك نجد أن البصرة أصبحت من أهم وأكبر غابات النخيل لا في العراق وحسب وإنما في أنحاء العالم ,وقد قدر عدد نخيل البصرة بعشرة ملايين أو أكثر تنتشر على ضفاف نهري الفرات ودجلة . وكان السجستاني موفقا أيضا عندما ذكر انتشار النخيل في الوطن العربي بشكل منصف وموضوعي , فالجزيرة العربية بكل أقطارها الحالية ومصر وبلاد الشام تعتبر بعد العراق أهم مناطق زراعة النخل وإنتاج التمور الجيدة لكن لا تصل إلى جودة ونوعية تمور العراق عامة والبصرة خاصة, وعند مقارنة وصف السجستاني لمراحل تطور ثمرة التمر نلاحظ أنه لا يختلف كثيرا عن الوصف العلمي الحالي إلا بالمصطلحات العربية القديمة وهي حسب رأي الباحث أصلح وأفضل بكثير من المصطلحات اللاتينية الحديثة, وقام أيضا السجستاني بوصف مراحل تكون التمر من البداية حتى النهاية , وتحدث عن فوائد نوى التمر في تغذية حيوانات المرزعة والذي يستخدم الآن في علف الماشية وفي علائف الدواجن بعد أن يجرش ويخلط مع باقي أنواع الأعلاف الأخرى, وقام أيضا بشرح زراعة النخل بالنوى وما هي مراحل الفلاحة , وقد ذكر السجستاني أسباب تفضيل عملية  تكثير  زراعة النخل بواسطة الفسائل على تكثيرها بالنوى وهي طريقة أوضحها العلم الحديث وأثبت أن تكثير النخيل بالفسائل هو أنجح, وأضمن وذلك لعدة أسباب, منها: أن أكثر من نصف النخل المكثر بالنوى يكون فحولا, ولا يمكن تمييز ذكور النخل عن الإناث بشكل يسير وفي وقت قصير إذا كثرت بالنوى, ومعظم نخل النوى ذات ثمار رديئة ونوعية غير صالحة للأكل والخزن, ولا تكون ثمار النخل البذري متشابهة النوعية مما يجعلها غير تجارية, كما أن ثمار النخيل وقتصادياتها العديدة أفضل في حالة الفسائل, المغروسة.

ووصف السجستاني أيضا النخلة الجيدة وما هي صفاتها, وتحدث أيضا عن أمراض النخلة, واتضح من دراستنا لكتاب النخل أن السجستاني ربط اللغة العربية بنحوها وبلاغتها وأسسها بالعلم البحت الذي يتناول النخلة من الوجهة الجغرافية والتشريحية والزراعية والغذائية واقتصادياتها العديدة ,فهو قد نحج في سرد معلوماته التي استقاها من مزراعين ولغويين سبقوه في هذا المجال, مما يمكننا من اعتبار  السجستاني موفقا في منهاجه العلمي هذا وهو عالم لغوي وشاعر. والذي كنا نأمله لو أسعفنا الحظ في الحصول على مؤلفاته الأخرى في مجال الحيوان والنبات لنقف على عبرقة هذا النابغة البصري وجهوده العلمية في تزيين حضارتنا العربية الخالدة, لنتعرف على موسوعية علماء العرب فيما درسوه وبحثوه فهم أدباء العلم وعلماء الأدب, عن ألفاظ النخل وما يتصل بها ما ورد في كتاب النخل للسجستاني لهي مصطلحات علمية ممتازة ورصينة لو استخدمت مع غيرها من الألفاظ التي صنعها وصاغها علماء وأدباء العرب الآخرون لكونت معاجم قيمة وكبيرة تضاهي المصطلحات العلمية الأوروبية التي ندرسها الآن في جامعاتنا ومعاهدنا العلمية.