يعتبر كل من العالمين ديسقورديس وأبو العباس النباتي من أكبر رواد علوم النبات في الشرق والغرب, وبزغ فجر عالمنا أبو العباس النباتي إبان حكم الموحدين بالأندلس وفي ظل رعاية قيمة من قبل ملوك وأمراء هذه الحقبة للعلم والآداب والثقافة والفكر ,بعد أن تضائلت هيبة قرطبة السياسية والثقافية . قيل في وصفه: (إمام المغرب قاطبة , جال بالأندلس ومغرب العدوة, ورحل إلى المشرق فاستوعب المشهور من أفريقيا ومصره وشامه وعراقه وحجازه, وعاين الكثير مما ليس بالمغرب وعارض كثيرا فيه كل ما أمكنه ولم يزل باحثا على حقائقه كاشفا عن غوامضه حتى وقف منه مالم يقف عليه غيره, ممن تقدم في الملة الإسلامية فصار أوحد عصره  فردا لا يجاريه فيه أحد بإجماع أهل ذلك الشأن)

ولد أبو العباس النباتي المعروف بابن الرومية في مدينة إشبيليا, سنة 561هـ وتوفي أيضا في مدينته سنة 637هـ قبل سقوطها في أيدي القشتاليين بنحو تسع سنوات فقط, وتميز هذا العالم بنبوغ رصين فاجتمع عنده علمان تميز فيهما , قل أن اجتمعا عند غيره من قبل, وهما: علم الحديث, ولذلك لقب بأبي العباس الحافظ وأبي العباس المحدث, وعلم النبات مما جعله يلقب بأبي العباس النباتي, وكان أبو العباس متعصبا لمذهب أبي علي بن حزم في الفقه الإسلامي, وعلى يديه انتشرت تصانيف ابن حزم بما أبداه من غيرة وعناية فائقة في إظهارها والإنفاق على استنساخها, وقد أنفق في هذا السبيل أموالا جمة. ولا شك أن هذا الميل الجانح لرغبة الالتزام باامظاهر في الفقه قد أثر عليه في دراسته وبحوثه في مجال النبات مما عله أن يختط ملك جديد في البحث الميداني العملي بعيدا عما كان قد سار عليه من سبقه من المختصين بالنبات من قريب أو بعيد, والذين اتكلوا على الرواية والإسناد وأقوال من سبقوهم, ولقد تتلمذ أبو العباس النباتي على يد جده وأبيه وكانا قدوة في العلم , وأخذ عن أبي علي ابن حزم, الحديث والفلسفة والطب الشيء الكثير فتأثر به وتعصب لآرائه كما أسلفنا,  وكان أبو العباس رجلا فاضلا ورعا صالحا زاهدا, شديد العطف على طلبة العلم, ويجود عليهم بالمال والكتب التي يعز وجودها مستعينا على ذلك بيساره, وله في ذلك أخبار كثيرة, وهو كثير الشغف بالدرس يواصل سهر الليل في تقييد بحوثه ومصنفاته ويقضي معظم أوقاته في فحص المرضى وإمدادهم بالأدوية, والعقاقير النباتية التي بذل جهودا جبارة في تمييزها وتصنيفها وإعدادها لهذا العمل الإنساني والأخلاقي.

قام أبو العباس بالبحث عن النباتات في أرجاء الأندلس حتى قيل أنه وصل إلى داخل فرنسا من أجل النباتات والأعشاب, وفي سنة 612هـ شد الرحال للقيام برحلات إلى المشرق ومن أجل الحج ورواية الحديث وجمع ودراسة النباتات التي لم تكن معروفة, وكان في كل بلد يبقى به مدة ليجتمع بعلماء ذلك البلد ويدرس نباتاته ويتصل بأهله ليعرف منهم ما يتعلق بأنواع النباتات التي تنبت في أرضهم, ولقد امتدت رحلته من المغرب الأقصى والمغرب الأوسط وتونس وطرابلس الغرب وبرقة في ليبيا حتى مصر, وعندما وصل الإسكندرية سمع به سلطانها الملك العادل أبو بكر بن أيوب ملك مصر, فاستدعاه إلى القاهرة لما وصله من أخبار علمه ومنزلته العالية في معرفته بالنبات, وفضله على تطور هذه العلم ,فتلقاه وأكرمه ورسم بأنه يقرر له جراية, ويكون مقيما عنده فلم يفعل أبو العباس, واعتذر منه وأخبره أنه جاء ليحج ويعود إلى بلده, وبقي في ضيافة الملك مدة وجمع له الترياق الكبير وركبه ثم توجه للحجاز, ولما حج بيت الله وزار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم, قام برحلة داخل الحجاز لجمع معلومات نباتية, كما أنه زار العراق وبلاد الشام وأقام بهما نحو سنتين وعرج منه على جزيرة صقلية وقيل جنوب إيطاليا ثم عاد إلى بلاده سنة 615هـ .

وكان أبو العباس يمتلك حسا أدبيا وشعريا جيدا, وكان محسنا في الشعر ولكن لم يصل إلينا الكثير من شعره, ولقد ألف أبو العباس الكثير من الكتب في النبات والطب والفلسفة, ومن كتبه: الرحلة المشرقية , وتفسير أسماء الأدوية المفردة من كتاب ديسقوريدس, وكتاب الكليات, وشرح أرجوزة ابن سينا, وألف في الحديث: اختصار حديث مالك للدار قطني, والحافل في تذييل الكامل, وغيرها الكثير.

عند التدقيق في السبعة والتسعين نبته المتبقية من كتاب الرحلة المشرقية في كتاب الجامع لمفردات الأدوية والأغذية لابن البيطار نجد جميعها ذات صبغة علمية جيدة في الملاحظة والوصف والتصينف وهو ابتداع أيضا جديد على العلماء العرب في علم النبات, ومظاهر الجدة في دراسة أبي العباس الحافظ للنبات يمكن تحديدها بهذه النقاط:

يعتبر أبو العباس النباتي أول من اعتنى اعتناء حقيقيا بالوصف الظاهري والدقيق لأي نبات يدرسه فهو يهتم بصورة خاصة في وصف أجزاء النبات الذي يشاهده بحيث يركز في أغلب الأحيان على خصائصه المخصوصة به وهذا يدل على اهتمامه بعلم النبات البحث, أي يصف الجذور والساق والعيدان والأغصان والشوك والزغب والرأس والورق والثمر, وقد كان أبو العباس قليل الاهتمام بالنبات الطبي مع أنه كان طبيبا جيد العلاج ومشهورا في ذلك وهذا راجع لكونه صب جل علمه على النبات العام. وقد وقع لأبو العباس النباتي في هنات كما وقع فيها من سبقه في مجال وصف النبات بالتشبيه فمثلا وصف نبات (أسرار) قائلا: (وهو على قدر ما صغر من شجر الرند وورقه وزهره كورقه وزهره ويثمر ثمرا على قدر البندق كأنه ما صغر من ثمر الخوخ, أقرب إلى الطول) كما أن أبا العباس لم يتخلص من عدم ذكر منافع النبات كما يفعل من سبقه أو عاصره, وهو إن ذكر تلك المنافع فلا تتعدى جملة أو جملتين وهي في أكثر الأحيان ما تكون طبية أو صناعية أو غذائية.

ولم يكن أبو العباس أول من صرف حياته إلى دراسة النبات دراسة ميدانية مباشرة فتجاوز نظرة السابقين إلى النباتات باعتبارها مجرد مفردات طبية, ولكن كان أول عالم عربي عني بدراسته لعمل النبات بالملاحظة العلمية بالبحت وحسب وإنما كان أخصبهم وأوفرهم حطا للسير بهذا العلم خطوات ذات قفزة نوعية محلات بالعلم التطبيقي.

ثانيا: لم يثقل أبو العباس كتابه (الرحلة) بالمنقول عن الذين سبقوه في مجال النبات بل اعتمد على المعاينة المباشرة والتحليل الدقيق للنبات المتحدث عنه, بل  أضاف معلومات جديدة لنباتات كانت معروفة ولكنها منقوصة الوصف التشخيصى والبيئ أو التوزيع الجغرافي, لأن معظم المؤلفين السابقين قد ركزوا اهتماماتهم على أهم فوائدها الطبية واللغوية وبذلك أصبحت المعلومات الأخرى وهي الأهم في علم النبات منقوصة وخير مثال على نزعة أبي العباس في التحقيق ورغبته في إضافة الجديد, فقد اعتمد أكثر الأطباء والصيادلة في معلوماتهم عن نبات: الماميثا, أن العلماء السابقين خلطو بينها وبين نبات الخسخاش الساحلي المعروف بالمقرن, لوجود توافق بينهما وبذلك تاهت عليهم الصفات الحقيقية لكل منهما, وعندما لاحظ ابو العباس ذلك , ناقش هذا التناقض الغير منطقي بصورة علمية. 

ثالثا: لولا أبو لعاس النباتي وتعريفه العلمي الدقيق لنباتات الجزيرة العربية وبالذات سواحل البحر الأحمر التي ذكرها أبو حنيفة في  كتابه النبات التي فقدت أكثر أجزاءه لما عرفنا عنها أي شيء وقد كانت لمساهمات أبو العباس في تعريف النباتات العربية التي لم تصلنا إلا في معاجم اللغة ومتونها الأثر الكبير لتكملة ومساعدة بحوث العالم السويدي بطرس فورسكال, الذي عاش في القرن الثامن عشر الميلادي, وفي علم النبات في أرض الجزيرة العربية ومصر, وقد أضاف أبو العباس أصنافا جدية من النباتات إلى علم النبات العربي التي ذكرها ابن البيطار في كتابه الجامع.