هو أبو القاسم عباس بن فرناس بن ورداس التاكرني القرطبي , ولد في عام 180هـ, وتوفي في عام 274هـ وبذلك عاصر ثلاثة أمراء هم : الحكم بن هشام وعبد الرحمن بن الحكم ومحمد بن عبد الرحمن, ومارس في قرطبة نشاطه العلمي والفكري, وقام بتجاربه في جو من الحرية التامة التي كفلها الإسلام للعلماء في كافة العصور الإسلامية, وقد اعتبر بحق واحدا من عباقرة الأندلس وأفذاذها الذين استطاعوا تحقيق أروع الكشوفات في ميادين العلوم التجريبية فمهدوا الطريق للأجيال اللاحقة من علماء العصر الحديث, ويتفق المؤرخون على وصف ابن فرناس بالوثبة الثقافية الموسوعية في تلك الفترة وأنه كان من مفاخر الفكر الإنساني عامة , فقد اشتغل وأبدع في الفلسفة والفلك والكيمياء والفيزياء والعمارة والعروض والشعر , وقد دلت كتابات معاصريه على أنه ترك كتبا كثيرة في الفلسفة والرياضيات  والطب, ولكن لم يصل إلينا من تلك الكتب شيء.

وأبدع ابن فرناس في علم الفلك وزاوله بصورة عملية, ومن ذلك أنه صنع هيئة الفضاء وما فيها من نجوم وغيوم وبرق ورعد واستطاع أن يحدث فيها ظواهر الرعد  والبرق وسقوط رذاذ من الماء على هيئة مطر بطرق آلية, وكانت له نظريات قيمة في علم الفلك وفي العمارة , ولقد حاز على إعجاب أهل عصره بابتكاراته المعمارية ومنها النافورات التي يتدفق منها الماء إلى برك وصحون ثم يعود الماء ثانية إلى تلك النافورات, وأيضا لم تصلنا للأسف معلومات مفصلة عن إبداعاته في فنون العمارة, ولكن من المؤكد أنها كانت كثيرة وقد سخرها الأمير محمد بن عبد الرحمن للنفع العام, إذ جعله يشرف على اختراعاته المعمارية في المنتزهات العامة في قرطبة وظاهرها, فكان الناس يأتون من الأصقاع البعيدة إلى قرطبة ليروا تلك الأعاجيب ويستريحوا بما تجريه عليهم من رذاذ ونافورات.

أما في العروض فقد وصف ب (إمام العروضيين في الأندلس) فقد وفر شروحا وتفصيلات لأكثر جوانب هذا العلم , كما أنه قال الشعر الجيد فوصف بفحل الشعراء الصنديد وله باع طويل في شعرالوصف والمدح والغزل.

ويعتبر عباس بن فرناس واحدا من رواد الفكر الأول في الأندلس في بداية القرن الثالث الهجري, الذين وضعوا أساسا متينا للنهوض الحضاري الشامل الذي شهدته هذه البلاد.

وابداعات ابن فرناس كثيرة ومحاولة الطيران كانت إحداها, بشكل جعله رائدا لأول محاولة طيران في التاريخ البشري, فنتيجة براعته في علم الفلك اتجه إلى تجارب الإنزلاق الجوي, وقد وردت حكايات كثيرة عن محاولاته الطيران لعب فيها الخيال دوره, وهنا سنتتبع الأمر حرصا على الحقيقة, فلقد مهد بان فرناس بمحاولته الطيران بدراسات مطولة لطيران الطيور وتركيب جسم الطير, ثم صنع آلة تتكون من عكوس وزوايا مركبة ومرتبطة بعضها ببعض وتتحرك بتأثير الحركات المركزية من اليدين والرجلين , وقد كساها بالقماس والريش ثم ربطها في جسمه بشراط من الحرير المتين, بيد أنه لم يضع في اعتباره أهمية صنع ذيل للرداء الذي اتخده في الطيران لإبقاء التوازن وتسهيل عملية الانزلاق في الجو والهبوط فيه, وقد نجحت تجربته في البداية وارتفع عن الأرض بعد أن ألقى بنفسه من أعلى, وظل يرتفع حتى وصل إلى مائة قدم فوق سطح الأرض, ولكن لما أراد أن يهبط , أو حدث ما أدى إلى هبوطه لم يكن لديه ما يقاوم به الجاذبية الأرضية كذنب الطير فسقط من الارتفاع الذي كان قد وصل إليه دون أن ينجح الجناحان في تخفيف حدة السقوط ووقع على مؤخرته, والمصادر المتوفرة لا تشير تحديدا إلى المكان الذي جرت فيه تلك المحاولة فقائل في قرطبة وقائل في بلنسية, أمام حشد كبير من الناس الذين تحمسوا له رغم فشله.

ولابن فرناس ابداعات أخرى, فقد اشتهر بتوليداته واختراعاته في ميادين العلوم التجريبية ومنها  التي كانت  اختراعه عددا من الآلات الرياضية والفلكية التي كانت تتميز بالدقة والابتكار, ومنها آلة (ذات الحلق) لرصد الكواكب السيارة والنجوم والقمر في الليل أو الشمس في النهار, واخترع (الميقاتة) وهي آلة لقياس الزمن تعتمد على الظل وقياس درجاته وزواياه, وحساب الدرجات التي هي بمثابة الساعات والدقائق والثواني في النهار, وقد كانت هذه الآلة مفيدة جدا في معرفة أوقات الصلاة, ومن اختراعاته (القلم الحبر) وهي آلة أسطوانية الشكل تستخدم للكتابة وتغذى بالحبر فوفر بذلك على الكتاب مشاق حمل الأقلام والمحابر أينما ساروا, وبراعته في الاختراعات ارتبطت ببراعته في الكيمياء فقد ألف (عمل الكيمياء) وهو كتاب وضع فيه خلاصة تجاربه في علم الكيمياء, وانصرف إلى إجراء التجارب الكيميائية بالطرق العلمية, فجعل من حرجات داره مختبرا علميا يضم آلات وأدوات شتى لهذا لغرض, كما استعمل النار لإحداث درجات الحرارة اللازمة لتسخين العناصر والمواد والمعادن, وواضح من آثار ومصادر ذلك الوقت أن ابن فرناس كان يعمل في مختبره بدعم من الأمراء, وكان يطلع الأمير على نتائج أبحاثه خطوة بخطوة, ومن أمثاله اختراعه لزجاج شفاف.

ويستدل من كتابات معاصريه على أنه سخر براعته الكيميائية في الجانب العسكري فكان أول من اخترع القنبلة الدخانية على أسس كيميائية فعرض على الأمير عبد الرحمن ابن الحكم, أن يصنع له ماء يعبأ في القوارير ويرمى به على الارض فيخرج من القوارير بعد تحطمها دخان يصيب من تمسه بضيق النفس والسعال, فلا يقوى على الحركة والقتال.

كما أنه تفنن في مزج المعادن بنسب خاصة, وصنع منها سيوفا تستعصي على الكسر, ومن أهم  اختراعات ابن فرناس ما يمكن تسميته أول دبابة عسكرية في التاريخ , وقصتها أن بعض العصاة على الأمير عبد الرحمن احتلوا حصنا في ظاهر بلنسية وعجزت حملات جيش الأمير عن الوصول إليهم فقد كان الحصن على رأس, مرتفع لا يمكن الوصول إليه إلا من طريق مكشوف, وكان العصاة يجيدون الرمي بالسهام, والنار , فاعتكف ابن فرناس في بيته أياما ثم جاء بمخطط آلة حربية عرضها على الأمير الذي سر بها وأمر عريف النجارين أن ينفذ صنعها بإشراف ابن فرناس فأنجزوها في يومين, وكانت آلة عجيبة تحرق من كان أمامها وتحمي من كان تحتها, وبها تم فتح الحصن في ظاهر بلنسية, ومن خلال الوصف الذي ورد عنها ينطبق على أول دبابة حاملة للمشاة في التاريخ وقد طورها ابن فرناس أكثر بعد فتح بلنسية, فكساها من الخارج بجلد خاص يقيها من الاحتراق , ولا نعلم إلى أي مدى وصل استعمال الدبابة إذ انقطعت أخبارها بعد وفاة الأمير عبد الرحمن ابن الحكم.

وظهر في حياة عباس ابن فرناس, حساد أغاظهم ما وصل إليه من مجد وشهرة, وحظوة لدى الأمراء , فوجدوا عمله بالكيمياء فرصة لاتهامه بالسحر, والزندقة,  ورفعوا عليه قضية تخريب المعتقدات فوقف من أجل ذلك أمام القضاة, وعقدت محاكمة في مسجد قرطبة, وكان الأمير شاهدا من ضمن الشهود, وهنا شرح ابن فرناس أن الله أمر أن يعمل كل إنسان مسلم ما يتفق مع مواهبه, وأن من ملك علما ولم ينفع به المسلمين فقد أثم. لأن العمل بمقدار الكفاءات من الفروض الكفائية, فحكم القاضي والفقهاء في الجلسة ببراءته وطلبوا منه اكمال أبحاثه, وكان عباس بن فرناس موسوعيا نسيج وحده في العلم والفن والأدب , ولم يكتفي عباس بن فرناس بالدراسة النظرية فقط ولكنه اهتم كثيرا بالتطبيق والناحية العملية, وكانت قبته السماوية خير مثال لذلك ,وأخباره كثيرة ومتصلة في الابتكار والكشوف في ميادين العلوم التطبيقية والتجريبية وكانت هذه النشاطات العلمية, تقوم في الغالب على استنباط الحكمة الرياضية وأصولها التي تتجسد في علم العدد وعلم الهندسة وعلم الهيئة وعلم الموسيقى وانتهت تجاربه إلى اختراع عدد من الآلات الرياضية .